الثلاثاء، 1 مارس 2011

نظرات في كلمات عن الأخلاق "إنسانية الإنسان بين مظهره ومَخْبَرِه وصورته وأخلاقه"



إنسانية الإنسان بين مظهره ومَخْبَرِه وصورته وأخلاقه

ليس الإنسان إنساناً بجسمه وصورته، ولا بثيابه ومظهره، ولكن إنسانية الإنسان بخُلُقه وخَلْقِهِ معاً، وبجسمه ونفسه وروحه وعقله.

أما الجسم وحده فلا يكفي دليلاً على إنسانية الإنسان، بدليل أنك قد ترى حيواناً في صورة إنسان، ويُطْلِقُ الناس عليه وصْف الإنسانية بحكم خَلْقه لاخُلُقه، ولكنه في الحقيقة لم يَعُدْ إنساناً، وذلك بحكم ما طرأ عليه من تغيّرٍ، كأن يكون مجنوناً مثلاً فاقد العقل، فلا يمكنه والحالة هذه أن يفكر تفكير الإنسان ولا يتصرف تصرف الإنسان؛ إنه لمّا فقد العقل الذي هو أحد ما يميزه عن الحيوانات فقد مقومات الإنسان الأساسية، فأصبح مُضِرّاً غير نافع، وهذه مرتبة تنزل عن مرتبة كثير من الحيوانات الأخرى، التي ينتفع بها الناس!.

أو كأن يكون قد انحرف ضميره وخُلُقه، فأصبح -تبعاً لذلك- يتصرف تصرف الوحوش الضارة غير النافعة، فقد أصبح هذا المخلوق مؤذياً، وأصبح الإيذاء طبعاً له، فهو شرٌ لا خير فيه؛ فهل بقي مثلاً هذا على إنسانيته بحكم خِلْقته فقط؟!. كلاّ بل هو مخلوق آخر قد يَخْدَعُ الآخرين بصورته ويوهمهم أنه إنسان وليس الأمر كذلك!.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} !!

فانظر كيف أخبرك الله سبحانه بأنه خلقك من سلالة من طين، ثم قال لك: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ... } !!.

يقول القاضي أبو بكر بن العربي: "ليعرِّفك أن الشرف والقَدْر إنما هو للتربية لا للتربة" !!.

نعم إن إنسانية الإنسان ليست بجسمه، وإنما بنفسه وفكره وخُلُقِهِ، بدليل أنه إذا مات أسرع أهله إلى دفنه، ولو كان إنساناً بمجرّد جسمه لما أسرعوا إلى دفن الجسم بعد موته!!.

وإن من أهم أسباب التحلّي بالأخلاق الحميدة والسعي في اكتسابها معرفة الإنسان لهذه الحقيقة أعني معرفته بنفسه وبمعنى إنسانيته كي يُعْنى بها ويَسْعى في المحافظة عليها ولا ينحرف في أخلاقه وسلوكه تبعاً لانحراف فهمه لحقيقته ونفسه وطبيعة العلاقة بين خَلْقه وخُلُقه.

يقول أبو القاسم الراغب الأصبهاني:
فقد كاد قولُنا: الإنسان يصير لفظاً مُطْلَقاً على معنىً غير موجود، واسماً لحيوان غير معهود، كعنازيل وعنقاء مغرب، وغير ذلك من الأسماء التي لا معاني لها، كما قال تعالى في صفة الأسماء المسمّاة آلهةً: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} وقال عز وجل: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} فجعلها اسماً بِلاَ مُسَمَّى.

ولم أَعْنِ بالإنسان كل حيوان منتصب القامة، عريض الظُّفر، أَمْلَسِ البَشَرةِ، ضاحكِ الوجه، ممن ينطقون ولكن بالهوى، ويتعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، ويَعْلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويكتبون الكتاب بأيديهم ولكن يقولون هذا منعندِ الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ويجادلون ولكن بالباطل ليُدْحِضُوا به الحق، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويُبَيِّتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويأتون الصلاة ولكن كُسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ويُصَلّون ولكن من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، ويذكرون ولكن إذا ذُكّروا لا يَذْكرون، ويَدْعون ولكن مع الله آلهةً أُخرى، ويُنْفقون ولكن لا يُنْفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حُكْمَ الجاهلية يَبْغون، ويَخْلُقون ولكن يَخْلُقون إفكاً، ويحلفون ولكن يحلفون بالله وهم كاذبون.

فهؤلاء وإن كانوا بالصورة المحسوسة ناساً، فهم بالصورة المعقولة لا ناس ولا نسناس، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: يا أشباه الرجال ولا رجال بل هم من الإنس المذكور في قوله تعالى: { ... شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ... } .

 وما أَرى البحتري إذ اعتَبَر الناسَ بالخُلُقِ لا بالخَلْق متعدّياً في قوله:
لم يَبْقَ من جُلِّ هذا الناس باقيةٌ ... ينالها الفهم إلا هذه الصّور
ولا من يقول:
فجلُّهم إذا فكّرتَ فيهم ... حميرٌ أو ذئابٌ أو كلابُ

ولا تَحْسَبَنَّ هذه الأبيات أقوالاً شعرية، وإطلاقات مجازية، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّاكَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .

وسُئل ابن المبارك: مَنِ الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟. قال: الزهّاد. قيل: فمَنِ السفلة. قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين.

ولم يجعل غير العالِمِ من الناس؛ لأن الخاصية التي يتميّز بها الناس عن البهائم هي العلم، فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوّة شخصه؛ فإن الجمل أقوى منه، ولا بِعِظَمِهِ؛ فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته؛ فإن السَّبُعَ أشجعُ منه، ولا بأكله؛ فإن الثور أوسع بطناً منه، ولا بباههِ؛ فإن أخس العصافير أقوى على السِّفاد منه، بل لم يُخْلَقْ إلا للعلم والتفكر" .

وقال القائل:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
وقال الآخر:
وكائِنْ تَرَى مِن صامتٍ لك معجِبٍ ... زيادتُه أو نقْصُه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

والناس إنما يتفاوتون فيما بينهم بسِيرهم لا بصُوَرِهم، وخُلُقِهم لا بخَلْقهم وبنفوسهم وأرواحهم لا بأجسامهم، أمّا أجسامهم وخَلْقهم فهي هيئة واحدة، ومادتها مادة واحدة، وذلك على حدِّ قول من قال:

الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهمُ آدم والأم حواء
نفسٌ كنفس وأرواح مشاكِلةٌ ... وأَعْظُمٌ خُلِقَتْ فيهم وأعضاء
فإن يك لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهُدى لمن استهدى أدلاّء
وقدْرُ كل امرئ ما كان يُحْسِنُهُ ... وللرجال على الأفعال أسماء
وضدُّ كلِ امرئ ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
فَفُزْ بعلمٍ تَعِشْ حياً به أبداً ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
وقد لَمحَ بعض هذه المعاني ابن عصفور رحمه الله فقال فيها الأبيات التالية:
مع العِلْم فاسلك حيث ما سلك العِلْم ... وعنه فكاشفْ كل مَنْ عنده فهم
ففيه جلاء للقلوب من العمى ... وعونٌ على الدِّين الذي أَمْره حتمُ
فإني رأيت الجهل يُزْري بأهله ... وذو العلم في الأقوام يرفعه العِلْم
يُعَدُّ كبيرَ القوم وهو صغيرهم ... ويَنْفُذُ منه فيهم القول والحكم
وأيُّ رجاءٍ في امرئٍ شابَ رأسُهُ ... وأفنى سِنِيهِ وهو مستعجِمٌ فَدْم
يروح ويغدو الدهر صاحب بطْنةٍ ... تركّب في أحضانها اللحم والشحم
إذا سئل المسكين عن أمر دينه ... بدتْ رحضاء العيّ في وجهه تسمو
وهل أبصرتْ عيناك أقبح منظرا ... من أشيبَ لا علم لديه ولا حكم؟
هي السوأة السوءاء فاحذر شماتها ... فأوّلُها خزي وآخرها ذمُّ
وخالطْ رواة العلم واصحب خيارهم ... فصحبتهم زينٌ وخلطتهم غُنْمُ
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم ... نجوم إذا ما غاب نجم بدا نجم

ويترتب على معرفة الإنسان لحقيقة ذاته إدراكه ما ميزه الله به عن سائر المخلوقات، وإدراكه لما صيّره اللهُ به إنساناً، وما خلقه من أجله،وهو تزكية نفسه بعبادة ربه والاستقامة على شرعه، وإعداد نفسه للقاء ربه والفوز برضاه ودخول جنته والسلامة من سخطه وناره.

ومن ثمرات هذه المعرفة حِرْص الإنسان على التحلي بالأخلاق الفاضلة واكتسابها، والبعد عن إشقاء نفسه بالتجنّي على إنسانيته، بأي سبب يضرّ بهذه المعاني الآنفة الذكر التي ميزه الله بها عن المخلوقات الأخرى، كالانصراف إلى العناية بالجسم على حساب الخُلُقِ والعِلْم والدين، أو الانصراف إلى العناية بالثياب والمظاهر على حساب الخُلُقِ والدين.... إلى آخر ما هنالك من الأخطاء.

ومن ثمرات معرفة هذه الحقيقة مراعاتها في تقويم الناس فلا يتجه المرء اتجاهاً مُخطئاً أو خاطئاً في تقويم الناس، بل يستعمل هذا الميزان الصحيح أعني النظر إلى الخُلُقِ والسيرة لا إلى الخَلْق والصورة.

ومن ثمرات معرفة هذه الحقيقة إدراكُ الإنسان خطأ الذين يسلكون مسالك خاطئة متعددة طلباً منهم لإسعاد أنفسهم، وتحسيناً لصفاتهم عند الآخرين، كسعي الإنسان في التحلي بالثياب فقط.

فيا أخي! أراك تتزين بثيابك وتُعْنى بها، وربما لا تكون بهذا مخطئاً، ولكنك تناقض نفسك حينما تضيف إلى هذا الصنيع إهمال التزين بأفعالك وسلوكك وأخلاقك، وتغفل عن أُسس الأخلاق الجميلة!.

أيهما أكثر ضرراً؟ رداءة ثوبك أم رداءة تصرفك وسوء ذوقك في التعامل مع الآخرين؟!
أليست أخلاقك أبلغ في الدلالة على مدْحك أو قدْحك؟!
أليست تصرفاتك وطريقة تعاملك مع الناس تتعداك إلى سواك، بينماعدم جمال ثوبك إن كان فيه ضرر أو أذى فإنه ربما لا يتعداك إلى الآخرين؟! - على أنّ حُسْن المَظْهر مطلوبٌ، ولكنْ في حدِّ الاعتدال-.
فأيُّ الأمرين أحق منك بالعناية وبمحاسبة النفس عليه؟!.
وقلْ لي بربك أيها الداعية ما حقيقة الدعوة؟!
هل هي مظهر فقط؟ أو درسٌ فقط؟ أو حُسْنُ تعامل في الفصل فقط؟ أم هي سلوك منك وحُسْن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال؟!.

ما أحوجنا إلى إعادة النظر وشدة المراقبة في ميزان اهتمامنا بأنفسنا، وفي معيار تقويمنا لأخلاقنا ومعرفتنا لمقدار نفوسنا!.

والإمام ابن حزم، رحمه الله تعالى، يَدْعونا إلى دقّة التفكير وحُسْن الاختيار في موازَناتِه الآتية:
طالبُ الآخرة ليفوز في الآخرة متشبهٌ بالملائكة.
وطالبُ الشرِّ متشبهٌ بالشياطين.
وطالبُ الصوت  والغلبة متشبهٌ بالسباع.
وطالبُ اللذات متشبهٌ بالبهائم.
وطالبُ المال -لِعَينِ المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة- أسقطُ وأرذلُ من أن يكون له في شيء من الحيوان شَبَهٌ، ولكنه يشبه الغُدْرانَ التي في الكهوف في المواضع الوعرة، لا ينتفع بها شيء من الحيوان.

فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سُرَّ بشجاعته التي يضعها في غير موضعها
 لله ـ عز وجل ـ.
 فلْيَعْلَمْ أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سُرَّ بقوة جسمه، فلْيَعْلْم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً، ومن سُرَّ بحَمْله الأثقالَ، فلْيَعْلَمْ أن الحمار أحملُ منه، ومن سُرَّ بسرعة عَدْوِهِ فلْيَعْلَمْ أن الكلب والأرنب أسرعُ عَدْواً منه، ومن سُرّ بحُسْن صوته، فلْيَعْلَمْ أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذُّ وأطربُ من صوته.

فأيُّ فخرٍ وأيُّ سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه؟!.

لكن من قوي تمييزه، واتسع علمه، وحَسُنَ عمله، فليغتبط بذلك، فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس .






0 أضف تعليق:

إرسال تعليق

أخي الزائر/أختي الزائرة:
قبل أن تكتب تعليقك ،تذكر قول الله تعالى :

{ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية(18)

.๑. (النور جل جلاله) .๑.

لماكان النور من أسمائه سبحانه وصفاته كان دينه نورا،ورسوله نورا،وكلامه نورا، ودار كرامته لعباده نورايتلألأ،والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين،ويجري على ألسنتهم،ويظهر على وجوههم،ويتم تبارك وتعالى عليهم هذا النور يوم القيامة