الاثنين، 24 أكتوبر 2011

التفكر




بسم الله الرحمن الرحيم


سلسلة برنامج غاياتنا

التفكر


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف ألأنبياء والمرسلين.

أما بعد:
نتكلم في يومنا هذا عن مطلب يطلبه كثير من الناس وهدف نبيل يسعى إليه كثير من الخلق، ألا وهو:

القدرة على التفكر والاعتبار

فإن الله - عز وجل - أمرنا بالتفكر في كتابه، وجعله غاية وحكمة لكثير من المسائل التي عرض عليها أو نبه إليها سوى مما يتعلق بخلق الله- عز وجل- أو بما قصه علينا من أحوال الأمم الماضية ،يعتبر المؤمن ويتفكر في الآيات الكونية التي خلقها الله في الكون، فإن ذلك من أسباب معرفة قدرة
الله- عز وجل- وذلك من أسباب إجلال الله- جل وعلا- وخشيته سبحانه وتعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
أي: إنما يستفيد من التفكر من لهم عقول يستعملونها.


-         أمر الله - عز وجل- بالنظر والاعتبار فقال:(فاعتبروا يأُوْلِى الأبصار).

أي: انظروا إلى فعل هؤلاء الذين قصهم الله عليكم في كتابه، واحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فيكون ذلك سبب من أسباب ورود العقوبة التي وردت عليهم فتكونوا معاقبين بمثل العقوبة التي نزلت عليهم.


-         إن المؤمن يتفكر في نصر الله لأوليائه المؤمنين، كانوا مؤمنون في عصور عديدة ضعفاء قلة، ومع ذلك نصرهم الله - جل وعلا- قال سبحانه:(قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذالك لعبرة لأُولى الأبصار).


-         وهكذا أيضا يتفكر المؤمن في تلك الأمم المكذبة لأنبياء الله، كيف انزل الله عليهم العقوبات العظيمة: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيدهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولى الأبصار).


يقول تعالى:(فكذب وعصى*ثم أدبر يسعى*فحشر فنادى *فقال أنا ربكم الأعلى*فأخدهُ الله نكال الآخرة والأولى*إن في ذالك لعبرة لمن يخشى).


-         كذلك يعتبر الإنسان ويتفكر في المخلوقات العظيمة التي خلقها ربنا- جل وعلا- :(يقلب اللهُ الليل والنهار إن في ذالك لعبرة لأولى الأبصار). يقول سبحانه:(أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم*إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين).


-         هكذا أيضا يتفكر الإنسان في قدرة الله حينما يخرج الأمور مما يُضادها، يكون هناك أمر ثم يجعل الأمر المضاد له خارج منه، كما هناك ليل ظلام دامس ثم بعد ذلك يخرج من بين هذا الظلام الدامس نور الصبح مضيئا وهكذا يخرج من الحي ميت ويخرج من الميت حي، يخرج من الأمور المتضادة أمورا متجانسة ،يقول سبحانه:(وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونهِ من بين فرث ودم لبنا خالصا سائِغا للشاربين*ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في  ذالك لأية لقوم يعقلون).


-         كذا يعتبر الإنسان بالأمم السابقة، كيف كانت أحوالهم، أمم مثلنا بعضهم عندهم قوة وقدرة قد لا نصل إلى بعض تلك القوة، ذهبت تلك الأمم وزالت ولم يبق من أمورهم إلا التاريخ، حديث يقص وأسمار تتلى، وقد ذهبت تلك الأمور،  يقول تعالى :(لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الأبصار ما كان حديث يفترى ولأكن  تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). 
يقول - جل وعلا- (أفلم يهدي لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ).


-         كذلك يعتبر الإنسان بأحوال قرابته الذين كان يعيش بينهم، كانوا في بيت واحد وفي محل واحد، أين هم؟؟ ذهبوا، وانتقلوا لدار الآخرة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (زوروا القبور فإن فيها عبرة) ، وفي لفظ (فإنها تذكركم الآخرة ).


-         هكذا أيضا يتفكر الإنسان في أحوال الدنيا وفي تقلباتها، كيف كان أولئك على غنى وثراء فاحش، فإذا بهم فقراء يستجدون الناس، ذلك الإنسان كان على درجة عالية من الصحة وأصبح الآن يقاسي الأمرين مع أمراض تتابع عليه، من الذي بدل حاله؟ رب العزة والجلال.


-         ذكر عمر بن عبد العزيز يوم من الأيام، فسُل عن ذلك فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر.


-         كذلك يتفكر الإنسان في تقليب أحوال الخلق من حال إلى حال، (فلينظر الإنسان ممَّ خُلق*خُلق من ماءٍ دافق)) ((مالكم لا ترجون لله وقارا*وقد خلقكم أطوارا).


-         كذلك يتفكر الإنسان في أحوال طعامه الذي يأكله كيف مرت عليه أحوال كثيرة، (فلينظر الإنسان إلى طعامه* أنا صببنا الماء صبا *ثم شققنا الأرض شقا*فأنبتنا فيها حبا*وعنباً وقضبا*وزيتوناً ونخلا*وحدائق غلبا* وفاكهةً وأبّا*متاعاً لكم ولأنعمكم).


-         لقد اشتمل كتاب الله على الأدلة العقلية والشرعية المقنعة، فهل من متفكر فيها؟


فالاعتبار والتفكر تقوية للإيمان، تعريفٌ بالحقائق المخلوقات معرفة لدنيا وزوالها، تذكُر للأخرى قناعة برزق زيادة بصيرة، إدراك لعواقب الأمور، معرفة لقدرة رب العالمين وعظمته،فأين العقلاء الذين يسعون إلى هذه الغاية المهمة والعظيمة؟ألا وهي التفكر والاعتبار.


أسال الله - جل وعلا - أن يجعلنا وإياكم من المتفكرين المعتبرين.

كما  أسأله - جل وعلا- أن يعطينا قوة في تبصر الأمُورِ ومعرفة حقائقها.

هذا والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تابع القراءة...

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

مزايا الحج وشروطه ووجوبه


مزايا الحج وشروطه ووجوبه

الحمد لله رب العالمين شرع لعباده حج بيته الحرام. ليكفر عنهم الذنوب والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي جميع الشرك والأوهام، وأشهد أن محمد عبده ورسوله خير الأنام. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمركم بتقواه، وحديثنا إليكم في هذه الخطبة سيكون عن مزايا الحج في الإسلام، وأحكامه العظام، سائلين الله لنا ولكم التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح والقبول.

فالحج هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). أي: لله على الناس فرض واجب، وهو حج البيت، لأن كلمة (على) للإيجاب، وقد أتبعه بقوله جل وعلا: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

فسمى تعالى تاركه كافرا، ولهذا مما يدل على وجوبه وآكديته، فمن لم يعتقد وجوبه فهو كافر بالإجماع، وقال تعالى لخليله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)؛ وللترمذي وغيره وصححه عن علي رضي الله عنه مرفوعا: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا). وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، و إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا".
 والمراد بالسبيل: توفر الزاد ووسيلة النقل التي توصله إلى البيت ويرجع بها إلى أهله، مع توفير ما يكفي أهله إلى أن يرجع إليهم بعد سداد ما عليه من الديون.

والحكمة في مشروعية الحج هي كما بينها الله تعالى بقوله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)، إلى قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

فالمنفعة من الحج للعباد، ولا ترجع إلى الله تعالى، لأنه (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

 فليس به حاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه، بل العباد بحاجة إليه فهم يفدون إليه لحاجتهم إليه.

والحكمة في تأخير فرضية الحج عن الصلاة والزكاة والصوم، لأن الصلاة عماد الدين ولتكررها في اليم والليلة خمس مرات، ثم للزكاة لكونها قرينة لها في كثير من المواضع، ثم الصوم لتكرره كل سنة، وقد فرض الحج في الإسلام سنة تسع من الهجرة كما هو قول الجمهور، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام إلا حجة واحدة هي حجة الوداع. وكانت سنة عشر من الهجرة، واعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر. والمقصود من الحج والعمرة عبادة الله في البقاع التي أمر الله بعبادته.
 قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله".

والحج فرض بإجماع المسلمين وركن من أركان الإٍسلام، وهو فرض في العمر مرة واحدة على المستطيع، وفرض كفاية على المسلمين كل عام، وما زاد على حج الفريضة في حق أفراد المسلمين فهو تطوع.
وأما العمرة فواجبة على قول كثير من العلماء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة". رواه أحمد ابن ماجه بإسناد صحيح.

وإذا ثبت وجوب العمرة على النساء فالرجال أولى، وقال صلى الله عليه وسلم للذي سأله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظغن، فقال: "حج عن أبيك واعتمر". رواه الخمسة وصححه الترمذي. فيجب الحج والعمرة على المسلم مرة واحدة في العمر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة فمن زاد فهو تطوع". رواه أحمد وغيره، وفي (صحيح مسلم)

وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أكل عام؟ فقال: "لو قلت: نعم لو جب، ولما استطعتم".

 ويجب على المسلم أن يبادر بأداء الحج الواجب مع الإمكان، ويأثم إن أخره بلا عذر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد.

وإنما يجب الحج بشروط خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، فمن توفرت فيه هذه الشروط وجب عليه المبادرة بأداء الحج.

ويصح فعل الحج والعمرة من الصبي نفلا، لحديث ابن عباس: إن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر". رواه مسلم.
 وقد أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يبلغ فعليه الحج إذا بلغ واستطاع، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عمرته.

وإن كان الصبي دون التمييز عقد عنه الإحرام وليه بأن ينويه عنه، ويجنبه المحظورات ويطوف ويسعى به محمولا ويستصحبه في عرفة ومزدلفة ومنى، ويرمي عنه الجمرات، وإن كان الصبي مميزا نوى الإحرام بنفسه بإذن وليه ويؤدي ما قدر عليه من مناسك الحج، وما عجز عنه يفعله عنه وليه، كرمي الجمرات، ويطاف ويسعى به راكبا أو محمولا إن عجز عن المشي، وكل ما أمكن الصغير فعله مميزا كان أو دونه بنفسه كالوقوف والمبيت، لزمه فعله، بمعنى: أنه لا يصح أن يفعل عنه، لعدم الحاجة لذلك.

ويجتنب في حجه ما يجتنب الكبير من المحظورات.

والقادر على الحج هو الذي يتمكن من أدائه جسميا وماديا بأن يمكنه الركوب، ويتحمل السفر، ويجد من المال بلغته التي تكفيه ذهابا وإيابا.

ويجد أيضا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم، ولا بد أن يكون ذلك بعد قضاء الديون والحقوق التي عليه، بشرط أن يكون طريقه إلى الحج آمنا على نفسه وماله، وإن قدر بماله دون جسمه بأن كان كبيرا هرما أو مريضا مرضا مزمنا لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر، حجة وعمرة الإسلام من بلده، أو من البلد الذي أيسر فيه. لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "حجي عنه" متفق عليه.

ويشترط في النائب عن غيره في الحج: أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "حججت عن نفسك؟"، قال: لا، قال: "حج عن نفسك" إسناده جيد وصححه البيهقي.

وحج النفل تجوز النيابة فيه عن القادر وغيره، ويعطى النائب من المال ما يكفيه من تكاليف السفر ذهابا وإيابا، ولا تجوز الإجازة على الحج، ولا أن يتخذ ذريعة لكسب المال، وينبغي أن يكون مقصود النائب نفع أخيه المسلم المنوب عنه، وأن يحج بيت الله الحرام، ويزور تلك المشاعر العظام، فيكون حجه لله لا لأجل الدنيا، فإن حج لقصد المال فحجه غير صحيح ولا يجزئ عن مستنيبه.

الحمد لله رب العالمين وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.



المصدر:
كتاب
الخطب المنبرية في المناسبات العصرية – الجزء الثاني.
تأليف:
الشيخ صالح بن فوزان الفوزان.




تابع القراءة...

السبت، 15 أكتوبر 2011

أسباب إجابة الدعاء


بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة برنامج غاياتنا

أسباب  إجابة الدعاء

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. 

 أما بعد:

فإن من الغايات الحميدة التي نسعى إلى تحصيلها، ويسعى إلى تحصيلها كل مؤمن: أن يكون مجاب الدعوة.

 فما هي الأسباب التي تجعلنا ممن يستجيب الله دعائهم؟

هناك أسباب عديدة لابد أن نتدارسها، وذلك أن الله عز وجل قد وعدنا بإجابة الدعاء كما قال سبحانه : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم أن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ، وكما قال سبحانه : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ).

ومن هنا لابد أن نتدارس الأسباب المؤدية إلى هذه الغاية العظيمة ألا وهي إجابة الدعاء .

هناك أسباب ذكرها الله جل  وعلا في كتابه قال تعالى :
 ( ادعوا ربكم تضرع وخفية انه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين ).

 فانظر كم من أدب وجد في هذه الآية يتمكن المؤمن من التأدب به حال دعائه فيستجاب لدعائه ( تضرعا ) بمعنى أنك تخضع لله وترجوه جل وعلا ، ( وخفية ) يعنى أنك تخفي هذا الدعاء ولا يسمع له أحد من الناس ، ( ادعوا ربكم خوفا وطمعا ) فتخاف من الله عز وجل بسبب ذنوبك وتطمع في رحمة الله بسب سعة رحمته جل وعلا .

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ( الرجل يطيل السفر أشعث اغبر يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذيا بالحرام فأنى يستجاب لذلك ).

 تضمن هذا الحديث شيئا من آداب الدعاء التي يستجيب الله جل وعلا للمؤمن إذا اتصف بها حال دعائه فمن ذلك: أن يرفع الإنسان يديه إلى السماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستحيي من العبد إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا ) .

 ومن ذلك: أن يكون المرء مسافرا، فقد ورد في الحديث أن المسافر له دعوة لا ترد وورد فيه أن الوالد له دعوة لا ترد  كما ورد أن السلطان له دعوة لا ترد وورد أن الصائم له دعوة عند فطره لا ترد فهذه من أسباب إجابة الدعاء .



كذلك من أسباب إجابة الدعاء: تحري الأوقات الفاضلة التي يستجاب فيها للعبد المؤمن، من ذلك آخر ساعة في الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئا من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ) ، ومن ذلك الثلث الأخير من الليل فهو من ساعات إجابة الدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل وذلك كل ليلة فيقول : هل من داع فأستجيب له هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له )

وهكذا هناك أوقات أخرى يستجاب للعبد المؤمن فيها حال وروده على صفات معينة من ذلك إذا كان المرء في سجوده فإن هذا من أحرى أوقات الإجابة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) أي: حري أن يستجاب لكم .



وهكذا أيضا من أسباب إجابة الدعاء: حرص الإنسان على اطابة مطعمه ومشربه وملبسه، فلا يلبس إلا الحلال ولا يأكل إلا الحلال، فبذلك يكون ممن يجيب الله دعائهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا سعد: أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة ) .


 من آداب الدعاء أيضا: أن يدعوا الإنسان بتقديم الفاضل تجعل الله جل وعلا يتفضل عليك فمثال ذلك : أن يقول ( يا رب ) ليتذكر ربوبية الله عليه وأن يقول ( اللهم ) ونحو ذلك ، وهكذا أيضا يتوسل بالأسماء الحسنى المناسبة لدعوته فإذا دعا بالمغفرة قال : يا غفور يا رحيم اغفر لي ذنوبي، وإذا دعا رب العالمين أن يعطيه الرزق دعا ربه بالأسماء المناسبة لهذه الدعوة: يا رزاق يا خير الرازقين يا خير من سأل الأرزاق ارزقني وهكذا إذا سأل خلقا فاضلا أو عملا صالحا سأل الله جل وعلا وتوسل إليه بأسماء تناسب ما دعاء به فيكون بذلك من أسباب إجابة دعائه.
 إن المؤمن يخرج دعائه لله عز وجل ولا يصرف شيئا من الدعاء لغير الله كما قال سبحانه : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا
 مع الله أحدا ). 
وكما قال سبحانه : ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون .وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ).

 إن الله جل وعلا يحب أن يسأل ووعد السائلين بإجابة الدعاء:
 ( قل ما يعبئوا بكم ربي لولا دعاؤكم )، فالله- جل وعلا- لا يقيم لناس وزنا لولا ما يتصفون به من صفة دعاء الله -جل وعلا- .
 من الصفات التي يجيب الله جل وعلا لأصحابها صفة الظلم فالمظلوم يجيب الله دعوته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ).

 فيا أيها المؤمنون :الله الله بعبادة الدعاء ،حتى تكونوا بذلك ممن رضي الله عنهم وأجاب الله دعائهم .

 هذا والله أعلم .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


تابع القراءة...

الجمعة، 14 أكتوبر 2011

عظمته سبحانه وتعالى (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة برنامج ذكرى

عظمته سبحانه وتعالى (1)

الله عزَّ وجل ربُّ الأرباب ..ومُسبّبُ الأسباب ..هو سبحانه العظيم الجليل ..هو سبحانه الذي تلجئ إليه النفوس ..وتخضع له الرقاب تعظيماً وإجلالاً وإكبارا..

سبحانه وتعالى ما أعظمه ..سبحانه وتعالى العظيم الذي قد كمُل في كل أنواع عظمته جلَّ جلاله وتقدَّست أسمائه ..
إيته من سمعه فهو عظيم ..من كرمه فهو عظيم ..من كبريائه فهو عظيم ..من قدرته فهو عظيم ..من حلمه فهو عظيم ..

إنّه الله العظيم في خلقه ..العظيم في ذاته ..العظيم في قضاءه وقدره وتدبيره للكون..إنّه الله العظيم

كيف لإنسان أن يجهل عظمة الخالق ,الذي خلق السماوات والأرض وأبدعها وزيّنها ,كيف لإنسان أن يجهل عظمة الخالق وهو الذي شقَّ الأرض بالأنهار وأجرى فيها المياه وسخَّر البحار وجعلها للناس .

يتأمّل الإنسان في خلق الله ولا يملك إلّا أن يقول {سبحان الله
ما أعظم الله ..سماء تحتوي على مجرّات وكواكب ونجوم ,وخلق عظيم كل هذا الرتل من خلق الله ..

ما أعظمه سبحانه وتعالى في خلقه وهو سبحانه وتعالى الذي رفع السماء بغير عمد ,وأقام السماوات سبحانه وتعالى على خلق عظيم ,حتى قال رسولنا عليه الصلاة والسلام :{ أطّت السماء وحُقَّ لها أن تئط ,ليس فيها موضع أربع أصابع إلّا وعليه ملك قائم أو ساجد } .

إذا أردت أن تُدرك عظمة الخالق فتأمّل قول الله عزَّ وجلَ ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67]

تأمّل يا رعاك الله ,تأمّل هذه اللحظات والدقائق لتُدرك عظمة الخالق جلَّ جلاله وتقدّس سلطانه .

السماوات السبع بما فيها ,والأرضيين السبع بما فيها ,وتأمّل أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ,وبين كل سماء إلى السماء التي تليها مسيرة خمسمائة عام ,وسُمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ,و فوق السماوات السبع حملة العرش ,وحملة العرش أُذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يُحدّث عن أحدهم يقول عليه الصلاة والسلام :{أُذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش ..رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش (أي على رأسه العرش) وبين شحمة أُذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام ,يقول ذلك الملك : سبحانك حيث كنت } , كل هذه العظمة يقبضها المولى بيمينه جلّ شأنه .

دخل حبر من أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم وقال :{ يا محمد..بلغنا أنّ الله يوم القيامة يجعل السماوات على إصبع والأرضيين على إصبع ,والشجر والدّوابّ على إصبع ,وسائر الخلق على إصبع ثم يهزّهنَّ هزَّا} فتبسّم صلى الله عليه وسلم وتلى قول الله تعالى ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67] .

هذه السماوات كلها بأجرامها وأفلاكها ,بمجرّاتها ,بشموسها وأقمارها ,هذه السماوات كلها كحلقة ملقاة بصحراء ممتدّة ,يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صفة العرش بإسناد صحيح وكذلك رواه ابن جرير في تفسيره ,يقول صلى الله عليه وسلم :{ ما السماوات السبع في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ,وفضل  العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة } يا لله ..إذا كان هذا هو شأن السماوات وكان ذلك هو شأن الكرسي الذي هو موضع القدمين كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { والكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدّر قدره إلّا الله } فكيف الحال بالمخلوق العظيم ألا وهو العرش الذي استوى الله سبحانه وتعالى عليه كما أخبر الله تعالى في آيات كثيرة ,ولذلك فإن الله تعالى نسب نفسه إلى العرش فقال ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ))[البروج:15] سبحانه وتعالى .

أتأمّل في هذا الكون ..من الذي خلقه ؟؟ هذا الإعجاز العظيم ,أفلاك هائلة ,سماوات متباعدة ,ورد في الحديث أن ما بين السماء والسماء خمسمائة سنة ,والله أعلم بمسير من !! ثم بعد ذلك البحر ,ثم بعد ذلك الكرسي ثم بعد ذلك العرش ,أفلاك لا يستطيع الإنسان أن يتصوّرها إلّا أن يقف حائراً أمامها ويسبّح الله سبحانه وتعالى ((فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ))[الواقعة:74] .

وإذا أردت أن تتأمّل هذه العظمة ,فانظر إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم :{ ما السماوات السبع والأرضيين السبع في يدي الرحمن جلَّ شأنه إلّا كحبّة خردل في يدي أحدكم } ..

خلق الملائكة على أعظم خلق كما قال عزَّ وجل ((جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[فاطر:1] , خلق الله جبريل عليه السلام ..تأمّل عظمة الرحمن في خلق جبريل عليه السلام ,خلقه وله ستمائة جناح ,رآه المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو يسدُّ الأفق ولكنَّ هذه العظمة مع خوف الرحمن وتعظيمه جلَّ وعلا تحوَّل هذا الملاك العظيم عند عظمة الرحمن تعالى إلى شيء كالشنِّ البالي ,يقول عليه الصلاة والسلام :{رأيت جبريل ليلة أسري بي كالشنِّ البالي من خشية الله } كالشنِّ البالي من مخافة الله تعالى ,كالقربة المهترئة وما ذلك إلّا لتعظيم الله سبحانه وتعالى .

والملائكة لأنهم يشاهدون من عظمة الله تعالى ما لا نشاهد ,ويعلمون من عظمة الله تعالى ما لا نعلم أخبر الله تعالى أنهم ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ))[التحريم:6] ,وأخبر تعالى أنهم ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ))[الأنبياء:20] فهذا التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع منبعث من تلك العظمة العظيمة ,وهذه الطاعة التي لا تعرف العصيان ولا تعرف العوج إنما هي منبعثة من استشعار العظمة الهائلة لله تبارك وتعالى .
إنّه الله العظيم ..الذي عرفت المخلوقات عظمته سبحانه وتعالى فخرّت صاغرة ..ذليلة ..منكسرة مطاوعة له سبحانه وتعالى ,يخلق السماوات ويخلق الأرضيين ثم يأمرها بالإتيان ((اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ))[فصلت:11] .

تأمل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
بأحداق هي الذهب ألسبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك

نعم ... ليس له شريك في هذه العظمة ..ليس له شريك في هذه القدرة ..ليس له شريك في هذا العلم ..في هذه الحكمة ..لأنه عظيم سبحانه وتعالى عظمة مطلقة ..

إذاً تأمّــل في مخلوقات الله ,تأمّــل في نفسك ستجد عظمة الله سبحانه وتعالى بيّنة ,إنَّ هذا الكون كله يشهد بلسان حاله ويعلن أنَّ الذي يستحق العبادة والتبجيل المطلق والتوقير المطلق ,وأنَّ الذي له السموّ المطلق والعلوّ المطلق هو الله عزَّ وجلَّ وحده لا شريك له .

بمثل هذا التأمّل ..هذا التفكّر ..قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ))[الغاشية:17] ,((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))[الذاريات:21] هذه كلها تثمر في قلبك التعظيم والإجلال للربِّ سبحانه وتعالى .

سبحانك ...من ليس لعظمته ابتداء,ولا لجلاله انتهاء ...
سبحانك ...من له العزّة والعظمة ,والمجد والكبرياء ...
سبحانك ...من لا تحيط أوصاف المخلوق بكل عظمته ,ولا يدرك ثناءهم عظيم جلاله وقدرته...

سبحانك ...أنت كما أثنيت على نفسك ,و فوق ثناء خلقك ..
إذا أردت أن تدرك عظمة الله عزَّ وجل فالزم كتابه ,وانظر إلى أسمائه وصفاته ,تعرّف على ربك بما له من أسماء وصفات تليق بجلاله وعظمته ,يُشير ابن القيّم عليه رحمة الله إلى هذا المعنى فيقول :[ إنَّ معرفة منزلة عظمة الله عزَّ وجل لا تُنال إلّا إذا عرف العبد ما لله عزَّ وجلّ من صفات تليق بجلاله وعظمته ] .

ولعلَّنا نتذكّر ما أخبر الله سبحانه وتعالى به وقاله في سورة البقرة في آية الكرسي وهي أعظم آية في القرءان لأنها تتحدّث عن العظيم سبحانه وتعالى ,إذ ينبغي للعبد أن يقف عندها حين يقرؤها وهو ينام ,حين يقرؤها في دبر الصلوات ,حين يقرأ هذه الآية في كل حال أيستشعر عظمة الله ؟؟! أيُدرك هذه العظمة ؟! ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) تفكّر عبد الله ..تفكّري أمة الله , تفكّري وأنتي تقرئين هذه الآية ,وأنتي تنامين ..أنت تنام ,ولكنَّ الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ,لا تأخذه سنة ..لا تأخذه غفلة سبحانه وتعالى ,وإنما هو الله جلَّ جلاله الذي لا تأخذه غفلة ناهيك عن أن يأخذه شيء مما ينتاب الناس من الموت أو نحوه سبحانه وتعالى ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا))[الفرقان:58] .

وفي نهاية هذه الآية نجد ذكر عظمة الله تبارك تعالى ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَأوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا)) لا يُكرثه ولا يُفقره سبحانه وتعالى أن يتحمل السماوات ,وهنا سؤال لماذا لا يؤوده حفظهما لماذا لا يُثقل على الله سبحانه وتعالى أن يحمل السماوات والأرض ؟؟
 لأنه عظيم ..لأنه عظيم .

فمن لوازم عظمته عزَّ وجل أنّه له العظمة المطلقة ..أنَّ الله سبحانه وتعالى عظمته لا تُحدُّ بحد ,ولا يُتصوّر أبداً ..لا يُتصوّر له نهاية أو غاية ,ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بقوله ((فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ))[الواقعة:74] لأنه يستحق هذا التسبيح والتنزيه المطلق لأنه عظيم .

ثمَّ ما ذكر الله تبارك وتعالى في آخر سورة الحشر في ذكر عظمته في أسمائه وصفاته ,وعظمته في كتابه الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام ((لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ))[الحشر:21]
ما أعظم ما في هذا القرءان مما يُحدث تصدّع الجبال وتصدّع قلوب المؤمنين..إنه أسمائه وصفاته..إنّه نعوته سبحانه وتعالى ,ولذلك أردف الله تعالى بسرد أسمائه وصفاته عقب ذلك فقال عزَّ وجلّ ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[الحشر:22ــ 24] .

هنا أُذكّرك بالسورة التي تعدل ثلث القرءان ..سورة الإخلاص ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ )) الله الصمد .
هذه الآية التي يقول عنها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصمد الذي تصمد إليه الخليقة كلها لحاجاتها ,إنَّ الخلائق كلها تصمد لله سبحانه وتعالى ..ترجع إليه جلَّ وعلا ,فما من شيء إلّا وهو بحاجة إليه جلَّ وعلا أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ,ليس هناك من شيء قائم على كل نفس وما من نفس تقوم عليه إلّا الله جلَّ وعلا ,ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما في شأن الصمد يقول :{ الصمد هو السيّد الذي قد كمُل في سؤدده ,والعظيم الذي قد كمُل في عظمته ,والحليم الذي قد كمُل في حلمه ,والعليم الذي قد كمُل في علمه ,وهو الذي قد كمُل في جميع أنواع الشرف والسؤدد } .

ولو أدركنا فعلاً حقيقة هذه العظمة لما توجّه الناس قاطبة إلّا إلى هذا العظيم سبحانه وتعالى ,وحتى هذه من الناحية المنطقية ألّا يتوجّه الناس إلّا إلى من يملك القدرة المطلقة ومن له العظمة المطلقة ,ومن عنده العطاء المطلق والكرم المطلق والمغفرة المطلقة ,لكن لأنّ الناس جهِلوا هذه العظمة ,جهِلوا هذه الصمدية لله سبحانه وتعالى فتوجّهوا إلى المخلوقين ,أصبحوا يطوفون حول القبور ويذهبون إلى الأولياء يطلبون منهم المدد ,الذي يملك هذا المدد هو الله سبحانه وتعالى صاحب العظمة المطلقة .

ثم أنَّ هذه السورة قد أتت على كل جوانب عظمته في توحيده وإفراده في العبادة ,فهو سبحانه وتعالى أحد في أسمائه وصفاته وأفعاله ,وهو سبحانه وتعالى صمد في كل أسمائه الحسنى وصفاته العُلى ,ثمَّ هو سبحانه وتعالى ليس كبقية الخلق لم يلد فيكون له سبحانه وتعالى أولاد فيكون له فرع ,ولم يولد فيكون له آباء ,ولم يكن له كفواً أحد فيكون له نظراء ,فليس له فرع ولا أصل ولا نظراء بل هو قائم بذاته سبحانه وتعالى ..

إلهي ..أنت الموصوف بالكمال أكمله ..وبالجلال والعظمة أوسعه ..

إلهي ..علمك بكل شيء محيط ,لا ينقص إلّا كما ينقص من البحر المخيط ..
إلهي ..ذكرك نهم الأفئدة الزاكية ,وتعظيمك مأوى النفوس الراضية ..
إلهي ..إذا بارزك المذنبون بالمعاصي ,فإنَّ تعظيمك قد أخذ من أولياءك بالنواصي ..
إلهي ..أسكن خشيتك قلوبنا ,وأملئ بمخافتك نفوسنا ..
إلهي ..لا عظيم إلّا ما عظّمته ,ولا رافع لما وضعته ..

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم مُعظّماً لخالقه ومولاه ,كان يُدرك أنَّ الله هو المستحقُّ للعبادة ,ولذلك لمّا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُدرك فضل محمد ومكانته عند ربّه ومنزلته عند خالقه قال :{ يا رسول الله ,إنَّا نستشفع بالله عليك } فغضب النبي عليه الصلاة والسلام ثم سبّح الله ربّه { سبحان الله ,,سبحان الله ,, سبحان الله ...} فما زال يسبّح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ,ثمَّ قال :{ يا هذا ..أتدري من الله ؟؟ إنَّ الله لا يُستشفع به على أحد من خلقه } جلَّ جلاله وتقدَّس سلطانه .
ألا ما أعظم تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لربّه وهو يقف بين يديه في الصلاة ..تقول إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم :{ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُضاحكنا ,يمازحنا ,يجلس معنا يتحدّث معنا ,فإذا أذّن المؤذّن كأنّه لا يعرفنا }
نعم ..جاء الموعد الخاص بربّه سبحانه وتعالى ,ولماذا يُعظّم هذا الموعد ؟ لأنه يُعظّم صاحبه وهو الله عزَّ وجل ,فإذا قام في الصلاة عليه الصلاة والسلام فإنه كان يكون مع الله جلَّ وعلا تعظيماً وإجلالاً ,بل يستشعر ذلّه وانكساره ..بل يستشعر عبوديته يوم أن يقف بين يدي الله عزَّ وجل فتذرف عينه دمعا ,وكان له أزيز كأزيز المرجل من البكاء عليه الصلاة والسلام , ولربمّا التفت إلى الصحابة بعد صلاته فوعظهم موعظة عظيمة مما وجد من تعظيم الله تعالى وإجلاله ,أليس هو الذي وقف أمام الصحب الكرام يوم أن صلّى بهم صلاة خسوف أو كسوف فقال صلى الله عليه وسلم :{ يا أمّة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً و لخرجتم إلى الصُعدات تجأرون إلى الله ,ولما تلذّذتم بالنساء على الفرش } .

إنّه صلى الله عليه وسلم يُبيّن لأصحابه عظمة مولاه جلَّ وعلا ,وهو صلى الله عليه وسلم قد وجد ذلك في صلاته ,وجد ذلك في مناجاته لربه سبحانه وتعالى .

ولذلك كان سلف هذه الأمّة يسيرون على نهج محمد في تعظيمهم لخالقهم وبارئهم ,يُدركون لله قدره ,ويعرفون لله منزلته ,ذلك الصدِّيق رضي الله عنه الذي كان يُعظّم الله سبحانه وتعالى كل تعظيم فيُنفق ماله كله في سبيل الله ,وذاك عمر رضي الله تعالى عنه الذي كان يأمر بأن توضع خدّه على الأرض وكان يقول :{ ويل لعمر ولأم عمر إن لم يرحمني الله تعالى } وكان يقول :{ ليتني أخرج من هذه الدنيا كفافاً لا لي ولا علي } .

وتأتيه امرأة عجوز من نساء المسلمين فتستوقفه وتقول له :{ أمير المؤمنين عمر ..كنت عُمير ثمَّ غدوت عمرا ثم أصبحت أمير المؤمنين ..فاتقي الله يا عمر } فيسكت عمر ويُذعن ويطأطئ الرأس حتى يقول بعض جلسائه :{يا أمير المؤمنين تُذعن لامرأة عجوز وتستمع إليها فيما تقول } قال :{ ويلك ..ويلك ,ألا تدري من هذه ؟؟ هذه التي استمع الله قولها من فوق سبع سماوات ,أولا يسمع عمر لها } استشعر عمر أن الله العظيم قد استمع لهذه فلماذا لا يستمع عبد الله لها ,لماذا لا يستمع عمر لها وقد استمع سيّده ومالكه العظيم سبحانه وتعالى لها ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)) [المجادلة:1] .

ولذلك كان يقال عن الحسن أو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان إذا توضّأ انتفض واصفرَّ وجهه فيقولون : لماذا ؟ فيقول :{ أتعرفون من سأقابل} ,إنها إجابة واضحة وبيّنة {أتعرفون من سأقابل } أنا سأقابل ربي سبحانه وتعالى ,الإنسان إذا كان عنده موعد مع ملك أو وزير ينتفض ويستعد لهذا اللقاء قبله بخمسة أيّام ويُخبر البقية أنا عندي موعد مع الوزير ,عندي موعد مع الملك ,هذا عنده موعد مع ملك الملوك سبحانه وتعالى ..

ومن جميل ما ذكر بعضهم من قصة لبعض من أسلم في كتاب التوّابين كما ذكر ذلك عبد الواحد رحمه الله تعالى أنه قال :[ ركبنا في سفينة بحرية فلعب بنا الموج زمناً فجئنا إلى جزيرة من جزائر البحر وإذا في الجزيرة رجل يعبد صنماً ,فقلنا : يا عبد الله ,ما هذا الذي تعبد ؟!! فقال : هذا إلهي ,فقلنا : عندنا في السفينة من يسوّي خيراً من هذا ,قال : يا قوم وأنتم ماذا تعبدون ؟؟ قلنا : نعبد الله ,قال : ومن الله ؟؟! قلنا : الله الذي في السماء عرشه ,وفي الأرض سلطانه ,قال : كيف عرفتم الله ؟؟! قلنا: عرفناه بأن أرسل إلينا رسولاً فبلّغ الرسول رسالة الملك ,قال: وهل ترك من علامة ؟؟ قلنا : نعم ,ترك كتاب الملك ,قال: فأروني كتاب الملك فينبغي لكتب الملوك أن تكون حسانا ,فأخرجنا له المصحف فأخذنا نقرأ عليه شيء من القرءان ويبكي ,نقرأ ويبكي ,فقال : ينبغي لمثل هذا الإله أن لا يُعصى فأسلم وركب معنا في السفينة ,فلما جنَّ علينا الليل وأوينا إلى فرشنا قال : يا قوم ..هذا الإله الذي دللتموني عليه هل ينام ؟؟ ,قلنا له : لا يا عبد الله إنه حي قيوم لا ينام ,فقال : بئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام ,قال : فأعجبنا كلامه ,فلما جئنا إلى البلدة جمعنا له شيئاً من المال ,فقال : ما هذا ؟؟ قلنا له : يا عبد الله هذا مال تنفقه فأنت رجل غريب ,قال : لا إله إلّا الله ..دللتموني على طريق ما سلكتموها ,كنت هنالك في جزيرة من جزائر البحر أعبد صنماً وما ضيّعني ,أفيُضيّعني وأنا أعرفه ,قال فما هي إلّا أيام والرجل في مرض الوفاة فلما جئنا نعوده قلنا : يا عبد الله هل لك من حاجة سنقضيها ,قال : قضى حوائجي الذي جاء بكم إلى جزيرتي ثمَّ مات على ذلك ] ..

هذا رجل عرف الله تعالى فعظّمه فانعكس تعظيم الله تعالى على فؤاده فنطق بهذه الكلمات من كلمات الحكمة ..
يتبع ..








تابع القراءة...
.๑. (النور جل جلاله) .๑.

لماكان النور من أسمائه سبحانه وصفاته كان دينه نورا،ورسوله نورا،وكلامه نورا، ودار كرامته لعباده نورايتلألأ،والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين،ويجري على ألسنتهم،ويظهر على وجوههم،ويتم تبارك وتعالى عليهم هذا النور يوم القيامة