الخميس، 16 ديسمبر 2010

تابع لسلسلة (قلوب الصائمين)4



بسم الله الرحمن الرحيم

قلوب الصائمين


تصــفيــة القـلــــوب



الحمد لله رب العالمين .. أمر المؤمنين بتصفية قلوبهم بحيث تتمنى الخير للآخرين ، وترغب في حصول الجميع على ما ينفعهم في الدنيا والدين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ..



أما بعـــــــــد ...



فقد جاءت الشريعة بأمر المؤمنين بتمنّي الخير لجميع الخلق وخصوصا ًالمؤمنين ، ويدخل في الخير الذي يتمنّاه الإنسان لغيره الهداية لدين الله ، وتمسّكه بشعائر الإسلام والتزام أحكام الدين ، ويدخل في ذلك تمنّي حصول الجميع على منافع الدنيا وثمراتها وخصوصاً مع المؤمنين ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } وفي لفظ { لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير} ، وليس هذا خاصا ً بالمؤمنين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :{ من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنّة فلتدركه منيّته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر وليأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه} فإن قال قائل كيف يقال بأن هذا يشمل الكافرين والشريعة قد أمرتنا بقتالهم وجهادهم ، قيل أن الشريعة قد أمرت بالإحسان إليهم قال تعالى)ولا تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنهُم إلّا قَلِيلًاً مِنهُم فَعفُوُ عَنهُم واصفَحْ إنَّ اللهَ يُحِبُالمُحسِنِين( وهذا معنى أعظم من تمنّي الخير لهم وقد جاء في الحديث { في كل كبد رطبة أجر} والله تعالى يقول )إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإحسَان( وهذا عامٌّ مع الجميع ، لكن ليُعلم إن من محبة وصول الخير إليهم أن نتمنى عدم تمكّنهم من الصد عن دين الله ، ومن ذلك أن نتمنى عدم قدرتهم على إيذاء المؤمنين ، فإن هذا يقلل من سيئاتهم ، وكذلك نرى مشروعية جميع الأعمال التي معهم من أجل تقليل شرّهم لتقلّ سيئاتهم ..



وبهذا نعلم الفرق الذي بين المؤمنين وبين غيرهم .. فالمؤمن يتمنى الخير لغيره ، قال تعالى
)مَا يَودُّ الّذينَ كَفَرُوا مِن أهَلِ الكِتَابِ ولا المُشرِكِينَ أن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِّكُم واللهُ يَختَصُّ بِرَحمَتِهِ مَن يَشَاء( وقال سبحانه ) ودَّ كَثِيرٌ مِن أهَلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إيمَانِكُم كُفَّارَا حَسَدَاً مِن عِندِ أنفُسِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقَّ( .

وفي المقابل حذّرت الشريعة من عدم تمني الخير للآخرين أو من تمني الشرّ لهم أو من تمني زوال النعم عنهم فإن هذا هو الحسد الذي جاء في سنن أبي داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ إيّاكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب }وفي حديث الزبير مرفوعا{ ـــــــــــ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين } ..



وقد عاب الله تعالى على أهل صفة الحسد فقال
)أم يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلَىَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ فَقد آتَيِنَا آلَ إبرَاهِيم الكِتَابَ والحِكمَة وآتينَاهُم مُلكَاً عَظِيِمَاً(،وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم { لا تنافسوا ولا تحاسدوا } وفي الصحيح { ولكن أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم } ، وقال تعالى ) ولا تَتَمنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعضَكم على بَعض لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكتَسَبُوا وَلِلنِسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا اكتَسَبن واسألُوا اللهَ مِن فَضلِهِ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمَا (..



ومن أعظم ما يتمكن المرء به من دفع الحسد عن نفسه ..ومن دفع آثارالحسد السيئة أن يلتجئ إلى ربه جلّ وعلا دعاءً وتضرعاً وسؤالا ، بأن ينجيه من شر الحاسدين كما قال تعالى
) قُل أعُوذُ بِربِّ الفَلق من شَرِّ مَا خَلَق ومِن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَب ومِن شَرِّ النَفَّاثَاتِ في العُقَد ومِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَد( وكان من رقية النبي صلى الله عليه وسلم { بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك }..



إن المحسود يتمكن من دفع ضرر الحاسد عنه .. بالتعوذ بالله من شرّه وبتقوى الله ، فإن من اتقى الله حفظه الله كما في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يا غلام أحفظ الله يحفظك} ..



ومما يتمكن المحسود من دفع ضرر الحاسد عنه .. أن يقبل على الله عملا ًوإخلاصا ، وأن يتوكّل على الله جل وعلا ، فإن من توكّل على الله فهو حسبه أي كافيه شرور خلقه ..



يتمكن المحسود من دفع ضرر الحاسد عنه ..بالصبر عليه والإعراض عن أذاه وعدم اشتغال القلب بذكره مع التوبة إلى الله من الذنوب التي سُلّط عليه العدو بسببها ..



ومما يتمكن المحسود به من دفع ضرر الحاسد عنه .. أن يُكثر من الصدقة والإحسان وخصوصا ًأن يُحسن على الحاسد لأن ذلك يُطفئ حسده ..



من أعظم ما دُفع به الحسد .. إفراد الله بالعبادة وعدم صرف شيء من العبادات لغير الله ، فإن أهل التوحيد يقيهم الله شرور غيرهم ..



إن الحسد يُفسد الدين ، ويُضعف اليقين ، ويُذهب المروءة ، قال معاوية رضي الله عنه : [ ليس في خصال الشر أعدل من الحسد ، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود
] وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : [ ما أكثر عبد ذكر الموت إلّا قلّ فرحه وقلّ حسده ] وقال الحسن رحمه الله : [ يا ابن آدم لما تحسد أخاك ، فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلما تحسد من أكرمه الله ، وإن كان غير ذلك فلما تحسد من مصيره إلى النار ] وقال بعضهم :[ الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له ، بخيل بما لا يملكه ، طالب بما لا يجده ] ..



يا حاسدا ً لي على نعمتي ~ أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه ~ لأنك لم ترضى لي ما وهب



وكذلك نهت الشريعة عن الغل .. وهو إضمار الشرّ للغير وكان من دعاء المؤمنين
( ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا ً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) .

ومما قد يلتبس بالحسد والغل .. الغيــــــرة .. فإن مما له تعلّق بذلك من أعمال القلوب الغيرة التي أصلها الأنفة وفي الاصطلاح الغيرة كراهية النفس مشاركة الآخرين للإنسان فيما يظن اختصاصه به ، وقد النبي صلى الله عليه وسلم :{ إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض سبحانه } ..

أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الإيمان والتقوى .. وأن يجعلنا ممن يحب الخير للآخرين ولا يحسد أحدا ً من خلق الله ..

هذا والله أعلم ،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين




بسـم الـله الرحمـن الرحـيـم



قـلـــوب الصـــــائـمــيــــــن


الغــيــــــــــــــــــــــرة


الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ..

أما بعد ...

فإن من أعمال القلوب الغيــرة التي أصلها الأنفة .. ومعنى الغيرة في الاصطلاح كراهية النفس أن يشارك الآخرون العبد فيما يظن انه من اختصاصه .. والغيرة منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم ، جاء في المسند والسنن من حديث جابر رضي الله عنه أنه قال
: { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله عز وجل ، فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة ، وأما الغيرة التي يُبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة } وفي حديث علي : { الغيرة غيرتان .. غيرة حسنة جميلة يُصلح بها الرجل أهله ، وغيرة تُدخله النار تحمله على القتل فيقتل } وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ المؤمن يغار ، والله أشدّ غيرة } وفي الصحيحين من حديث المغيرة أن سعد ابن عُباده قال :{ يا رسول الله لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعجبون من غيرة سعد ؟! والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني } .

ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة
: { إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه } وورد في بعض الآثار [ الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق] والمذاء: الأذن باختلاط الرجال مع النساء الأجانب .

فمن الغيرة المشروعة أن يغار الإنسان على محارمه ، ومن ذلك أن يغار على أبناءه من أصدقاء السوء ، ومن ذلك أن يغار على شريعة رب العالمين أن يتكلم فيها من يريد صدّ الناس عنها وتحريف أحكامها . ومع مراعاة الغيرة المشروعة ، فإن العبد لا يتغافل عن مبادئ الأمور التي تُخشى غوائلها ، لكن لا يبالغ في إساءة الظن والتعنّت والتجسس على البواطن ..

إن من الأمور التي ينبغي أن تُلاحظ أن الله تعالى يغار إذا توجّه العباد بعباداتهم لغيره أو كانت قلوبهم معلقة بغيره ، وإنما الواجب على العباد أن يجعلوا أعمالهم كلها لله جل وعلا بحيث يتوجهون بدعائهم وسائر أعمالهم لله جل وعلا ، ومن ذلك أن تحضر قلوبهم عند عبادتهم لله جل وعلا ..

ومما يدخل في معنى حضور القلب .. أن يمتلئ القلب من عظمة الله عز وجل مع الأنس بالقرب من الله ومناجاته و الحياء منه سبحانه أن يطلع على ما لا يرضى من الأقوال والأفعال ، خصوصاً حال المناجاة .إذ قبيح بالعبد في الصلاة مثلا أن يقول بلسانه ( الله أكبر) وقد امتلئ قلبه بغير الله .

إن حضور القلب في العبادات يعني أن يستشعر العبد أنه واقف بين يدي الله عز وجل ، ومن ثم يقف موقف العبد الخادم الخائف الوجل ، فيعرف معاني ما يتكلم به ، ويفهم مقاصد الأفعال التي يؤديها بين يدي سيّده ، وحينئذٍ يسكن لذلك قلبه ، وتطمئن نفسه ..

ومن أمثلة ذلك .. حضور القلب عند قراءة القرءان ، فإن الله يغار عندما يقرأ العبد القرءان ويكون قلبه في غير تأمل معاني كتابه ، ومن أراد أن ينتفع بما في القرءان من المعاني العظيمة والمصالح الجليلة فليُجمع قلبه عند تلاوته أو سماعه ، وليحضر بقلبه حضور من يخاطب به كأن الله يُكلّمك الأن ، قال تعالى
) إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلب أو ألقَىَ السَمعَ وَهُوَ شَهِيد ( قال ابن القيم : [ إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيّته بكليّته على المطلوب وصادف وقتاً من أوقات الإجابة ، وصادف خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الرب ، وذُلاً له وتضرّعا ورقةً ، واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله تعالى ، وبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار وألحّ على الله في المسألة وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة ، وتوسّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده ، وقدّم بين يدي دعاءه صدقة ، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا ، ولا سيّما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظِنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم ]..

في الدعاء من الفائدة أنه يستدعي حضور القلب مع الله عز وجل ، وذلك منتهى العبادات ، فالدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل ، قال ابن رجب
: [ من أعظم شرائط إجابة الدعاء حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى] كما ورد [ ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، وإن الله لا يقبل دعاء من قلبه غافل لاه ] وفي التذكرة [ الذكر لله له شرطان : حضور القلب في تحريره وبذل الجسد في تكثيره ] وقال غيره : [ إذا أردت استجلاب حضور قلبك الغائب ففرّغه من الشواغل مهما استطعت ] ..

من فوائد حضور القلب .. إجابة الله لدعاء المسلم إذا دعاه بقلب حاضر مع تعلق القلب بالله عز وجل ، مما ينتج عنه راحة النفس ونقاء القلب ، ضرب الحكيم الترمذي رحمه الله أمثالاً لمن كان غافل القلب في عباداته فقال : مثل المصلي الذي يسهو بقلبه عن ربه كمثل رجل جنا جناية في حق الأمير ثم ندم فاستجمع أتباعه وتوجّه إلى باب الأمير معتذرا من أجل أن يصفح عن سوء أدبه، فلما أذن له الأمير ووقف بين يديه ، وأقبل الأمير عليه بوجهه ليقبل عذره ويحسن إليه ، أعطى ذلك الرجل جنبه للأمير وبدأ يتحدّث مع أحد خدم الأمير ، فما ظنك بموقف الأمير حينئذٍ ، ألا يُعرض الأمير عنه ، ألا يقع في نفسه أن هذا متلاعب وليس بمعتذر ، بل هذا مستخفّ بحق الأمير ، ومن ثم فلن يعبئ الأمير بعذره ..

وضرب مثلا لمن يدعو بدون حضور قلب ولا رغبة ولا رهبة ، بمن يطرق باباً ويطلب من أهله المساعدة فلما فتحوا له الباب وعرض حاجته عليهم ، ودخلوا للبيت ليحضروا ما يقدّمونه له لم يلبث عند الباب ، بل مضى لسبيله ، فلما وصلت المساعدة للباب لم يجدوا ذلك الرجل الذي يطلب المساعدة ، فأدخلوها داخل البيت ، فكان الرجل ينتقل بين البيوت وهذا شأنه ، فلم يحصل على مساعدة ولن يجد معيناً له ..

ومثل لمن يثني على ربه بقلب غافل بمن جنا جناية فلم يعتذر حال الإفاقة ، بل لما شرب مسكرا وقف بين يدي المجني عليه وقبّل رأسه ومدحه ، فلم يلتفت المجني عليه إليه لعلمه بأنه لا يعقل ما يقول ..

أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإيّاكم ممن حضر بقلبه في عباداته .. فكان قلبه حاضرا في صلاته وفي دعاءه وفي مناجاته ، وفي ذكره وفي ثناءه على ربه .. هذا والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..


بـســــم اللـــــه الــرحــمـــن الـرحــيـــم


قــــلــوب الصـــــــــائــمـيـــن


النـــــــــــــــــدم


الحمد لله قابل توبة التائبين .. يغفر الذنوب جميعا .. ويتجاوز عن النادمين .. والصلاة والسلام على من يُحفظ له في المجلس الواحد سبعين مرة (أستغفر الله وأتوب إليه ) ..

أما بعـــــــــد ...

فإن من أعمال القلوب التي يعظم أجرها .. الندم على ما حصل من الذنوب ..

والنــدمركن التوبة ومبدأها ، وفي السنن بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ النــدم تـــــــوبة } ولا خلاف بين أهل العلم أن التوبة من الذنب لا تصح إلا بالندم على فعله ، والنــدم على المعاصي لا يكون توبة ولا قربة إلا إذا كان ندما ًلله ، فمن نــدم على فعل المعصية لما فيها من ضرر دنيوي أو مرض لم يكن تائبا ..

والنــدم يتضمن اعتقادا ًوجزما ، ويتضمن إرادة ً ورغبة ، ويتضمن ألما ًوحسرة ، فإن القلب إذا استشعر أنه فعل ما يضرّه حصل له معرفة ًواعتقاد بأن ما فعله كان من السيئات ، وحصل له كراهية ًلذلك الفعل ، وهذا من باب الإرادات ، ومن حصل له أذى وغم لإقدامه على معصية ربّه ، فالندم يتضمن ثلاثة أشياء :

أولها :اعتقاد قبح ما نــدم عليه .

وثانيها : بغضه وكراهته .

وثالثها :الألم الذي يلحقه بسبب ارتكابه للذنب .

إن النــدمقد يكون بسبب فعل العبد للمعاصي والسيئات ، وقد يكون بسبب فعل العبد للمكروهات ، والنـدم قد يكون بسبب ترك العبد للواجبات ، وقد يكون بتضييع الإنسان لوقته وعدم فعله للمندوبات ، وكذلك قد يكون النــدم بسبب ما حصل على العبد من اعتقادات باطلات .

قال ابن مفلح
:[ التوبة هي النــدم على ما مضى من المعاصي والذنوب ، والعزم على تركها دائما ًلله عزّ وجل لا لأجل نفع الدنيا أو زوال أذى] ..

قال الحسن البصري في تفسير التوبة النصوح
:[ هي نــدم بالقلب .. واستغفار باللسان ..وترك بالجوارح .. وإضمار ألا يعود] .

إن النــدم على ما كان من الذنوب والمعاصي له أســباب وثــمرات .. فمن ذلك :

أن الله تعالى غفور رحيم ، يغفر الزلّات ويعفو عن الخطيئات ، ويتجاوز عن أهل النــدم ، فمن استشعر ذلك أقدم على التوبة والنــدم فغفر الله ذنبه ، قال تعالى
)واعَلَمُوا أنَّ الله يَعلَمُ مَا في أنفُسِكُم فَاحذَرُوُه واعلَمُوا أنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيم (وقال تعالى ) وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحمَةِ ( وقال ) ألَم يَعلَمُوا أنَّ اللهَ هُوَ يَقبَلُ التَوبَةَ عَن عِبَادهِ ( وقال ) وَهُوَ الّذِي يَقبَلُ التَوبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعفُوا عَنِ السَّيّئاتِ ويَعلَمُ مَا تَفعَلُونَ ( .

إن النـدم والتوبة شأن عباد الله الصالحين ، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول ) وتُب عَلَينَا إنّكَ أنتَ التَّوّابَ الَّرحِيم (وموسى يقول ) سُبحَانَكَ تُبتُ إلَيكَ وَأنَا أوَّلُ المُؤمِنِينَ ( وهكذا كتاب الله مليء من ذكر كلام أنبياء الله في تقديم التوبة بين يدي الله ..

أن التوبة سبب لمحبة الله للعبد التائب .. قال تعالى ) إنَّ اللهَ يُحبُّ التوّابين ( إن التوبة طريق الفلاح والنجاح كما قال سبحانه ) وتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعَا ًأيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعلّكُم تُفلِحُون ( .

إن التوبة إلى الله والنــدم على المعاصي... سبب لصفاء القلب ، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ إنّ العبد إذا أخطئ نُكت في قلبه نُكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه ، وإن عاد زِيدَ فيه حتى تعلو قلبه } وهو الران الذي ذكر الله ) كَلّا بَل رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُون ( ..

النــدم على الذنوب .. سبب لمغفرتها كما قال سبحانه ) قُل يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أسرَفُوا عَلَىَ أنفُسِهِم لا تَقنَطُوُا مِن رَّحمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرَ الذُنُوبَ جَمِيعَا ًإنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم (، وقد حكا جماعة من العلماء الإجماع على أن هذه الآية في التائبين ، وقال تعالى) ثم إنَّ رَبَّكَ للذِينَ عَمَلَوا السُوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعَدَ ذَلِكَ وأصلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم ( وقال )وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَا ًثُمَّ اهتَدَى ( .

إن النــدم على المعصية الذي يعقبه عمل صالح .. يكون سبب لتبديل السيئات لتكون حسنات ، كما قال تعالى عن أهل المعاصي )إلّا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلا ًصَالِحَا فَأولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيّئَاتِهِم حَسَنَات وَكَانَ اللهُ غَفُورَا ًرَحِيمَا( .

النــدم على المعصية ينتج كثرة الاستغفار الذي يكون سببا ًلخيري الدنيا والآخرة قال تعالى ) وإنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إليهِ يُمتِعّكُم مَتَاعَا ًحَسَنَاً ويُؤتِي كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَه ( .

النــدم على المعصية .. سبب لمحبة الله للعبد وفرحه به وإقباله عليه ، كما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم :{ لله أفرح بتوبة أحدكم ممن ضلّ عنه بعيره وفي فلاة ، وقد آيس منه ، ثم أقبل عليه }.

النــدم والتوبة والاستغفار من أسباب طيب الحياة الدنيا ومن أسباب تفضّل الله على العبد بالنعم في هذه الدنيا قبل الآخرة ، كما قال سبحانه ) وأنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إليهِ يُمتِّعُكُم مَتَاعَا ًحَسَنَا ًإلى أجَلٍ مُسَمَّى ويُؤتِي كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَه ( .

يا من فاته الفوز في سباق الطاعات .. لا تفوتنّك ساعات النــدم في التوبة فما أعظم أثرها على النفس ، وما أكثر ثوابها عند الرب ..

إن من فضل الله على العباد أنه سبحانه يدعوهم إلى النــدم والتوبة ليُثيبهم ويأجُرهم ، ويمحو عنهم ذنوبهم وزلّاتهم ، فهل من عاقل يستجيب لدعوة الله ؟!! جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
:{ قال الله عز وجل : يا ابن آدم .. لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي } بل اسمع لما رواه الإمام مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ والذي نفسي بيده.. لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم } .

علامة صـــدق النــدم على ما مضى من الذنوب ..شدّة تحفّظ العبد فيما بقي من عمره مع مواظبته لأنواع الطاعات بالجد والاجتهاد ، وكون العبد يرى أن ما يُؤديه من الطاعة قليل ، وأن ما يُنعم الله به عليه كثير ، مع رقة قلبه وصفاءه وطهارته ، وكثرة بكاءه وحزنه ، وتفويض الأمر إلى الله تعالى ..

فيا أيُّها المؤمنون .. شهر كريم .. شهر موسم للطاعات .. فالله الله .. انــدموا على ما حصل منكم من السيئات واعزموا على عدم العودة إليها ، فإن هذا الموسم مما يجعل المرء يستشعر فضل التوبة إلى الله ، ويجعله يقلع عن معاصي الله ، ويجعل الشياطين لا تتمكن من إيصال الوساوس إلى قلبه لأنها تُصفّد في شهـر رمـضــــان ..

فاستعملوا هذا الشهر في التوبة إلى الله جلّ وعلا ، والنــدم على ما حصل منكم من الذنوب ..

أسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا ولكم .. وأن يهدينا وإيّاكم للتوبـــــــــة النصـــــــــــوح .. هذا والله أعلم ..

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 



بسـم اللـه الرحـمــن الــرحــيــــم

قــلــوب الصــائـمـيــن

مــراقــبـــة اللـــه



الحمد لله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..


أما بعــــــــــد ...


فإن قلوب المؤمنين العقلاء ، تستشعر أن الله تعالى يراقبهم ، قال تعالى
)واعلَمُوا أنَّ اللهَ يَعلَمُ مَا فِي أنفُسِكُم فَاحذَرُوُه( وقال ) يَعلَمُ خَائِنَةَ الأعيّنِ وَمَا تُخفِي الصُدُور ( وقال )يَعلَمُ السِّرَ وَأخفَى( وقال ) ألم يَعلَم بِأنَّ اللهَ يَرَى ( ، جاء رجل إلى عبد الله ابن المبارك فقال له :[ أوصني ، فقال : راقب الله ، فقال الرجل : وما مراقبة الله؟! قال : أن تستحي من الله ، وكن أبدًاً كأنك ترى الله ] قال الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى )ألا حِينَ يَستَغشُونَ ثِيَابَهُم يَعلَمُ مَا يَسِرُّونَ وَمَا يُعلِنُون إنّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُدُور( قال :[ أعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظا ً أكبر ولا زاجرا ًأعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرءان ، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه ، رقيب عليهم ليس بغائب عمّا يفعلون ، وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلا ليصير به كالمحسوس فقالوا : لو فرضنا أن ملكا ً قتّالا ً للرجال ، سفّاكاً للدماء ، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلما ، وسيّافه قائم على رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، والسيف يقطر دما ، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته ، فهل ترى أن أحدا ًمن الحاضرين يهمّ بريبة أو بحرام يناله من بناته أو أزواجه وهو ينظر إليهم ، عالم أنه مطّلع عليه ..كلا .. لا يحصل ذلك ، بل تجد جميع الحاضرين يكونون خائفين ، وجلة قلوبهم ، خاشعة عيونهم ، ساكنة جوارحهم ، خوفا ً من بطش ذلك الملك .. ولا شك ولله المثل الأعلى أن رب السماوات والأرض جلَّ وعلا أكثر علما وأكثر مراقبة ، وأشد بطشا وأعظم عقوبة ونكالا ً من ذلك ، وحِما الله محارمه .. فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربّه جل وعلا ليس بغائب عنه ، وأنه مطّلع على كل ما يقول ويفعل وما ينوي لان قلبه وخشي الله تعالى وأحسن عمله لله ..] .


ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى .. أن الله تبارك وتعالى صرّح بالحكمة التي خلق الخلق من أجلها وهي أن يبتليهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا ، ولم يقل أيهم أكثر عملا ، فالابتلاء في إحسان العمل كما قال ) وَهُوَ الّذِي خَلَقَ السَمَاواتِ والأرضِ فِي سِتّةِ أيّام وَكَانَ عَرشُهُ عَلَىَ المَاءِ لِيَبلُوَكُم أيّكُم أَحسَنُ عَمَلا ( .


ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلقت هذه الأمور لأجلها هي أن يُبتلى ، أن يُختبر بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصل إلى نجاحه في هذا الاختبار ، ولهذا سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك بمحضر من الصحابةليتعلّموا من ، فقال : {
أخبرني عن الإحسان ؟ } وهو الذي خُلقت هذه المخلوقات لأجل الاختبار فيه ، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هو هذا الواعظ والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى ، والعلم بأنه لا يخفى شيء عليه مما يفعل خلقه ، قال له : { الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وقال الله جل وعلا ) اللهُ يَعلَمُ مَا تَحمِلُ كُلُّ أنثَى وَمَا تَغِيضُ الأرحَاُموَمَا تَزدَاد وَكُلُّ شَيءٍعِندَهُ بِمقدَارعَالمُ الغَيبِ و الشَهَادةِ الكَبِيرُ المُتعَال سَوَاءٌ مِنكُم من أسَرَّ القَولَ ومن جَهَرَ بهِ ومَن هُوَ مُستَخفٍ بِاللّيلِ وسَارِبٌ بِالنَّهَار( وقال سبحانه) ومَا تَكُونُ فِي شَأن ٍ وَمَا تَتلُو مِنهُ من قُرءَان ولا تَعمَلُونَ مِن عَمَل ٍإلا كُنّا عَلَيكُم شُهُودَاً إذ تُفيِضُونَ فِيهِ ومَا يَعزُبُ عن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرضِ ولاَ فِي السَّمَاءِ ولا أصغَرَ مِن ذَلِكَ ولاَ أكبَر إلاَ فِي كِتَابٍ مُبِين ( ..


فلا تغفل أيها العاقل عن مراقبة من لا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة ، ولا تشبع ولا تملّ من مراقبة الله فإنه تعالى لا يغفل عنها ، ينظر إليك ويطّلع على ضميرك ويُحصي عليك مثاقيل الذر وموازين الخردل حتى يجزيك بذلك
) إنّ اللهَ لا يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرّةٍ وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفهَا وَيُؤتِي مِن لَدُنهُ أجرًاً عَظِيمَاً ( ..

ويا أيها المؤمن .. إذا كنت في خلوتك عملت أعمالا ً، فإذا حضرك صبي أقلعت عن فعلك ، وأحسنت جلوسك حياءً منه ، فما حالك إذا اطلع عليك أمير أو كبير ، فكيف إذا اطلع عليك ملك الملوك الذي يتصرّف في الكون كيف يشاء .. فراقب الله أيها العاقل في جميع حركاتك وسكناتك وخطراتك ولحظاتك ، واجعل عملك كله لله الذي يقول
) واللهُ يَعلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُم وكَانَ اللهُ عَلِيمَاً حَلِيمَا ً( وفي قوله تعالى ) يَا بُنَّيَ إنَّهَا إن تَكُ مِثقَالَ حَبّة ٍ مِن خَردَل ٍ فتَكُن فِي صَخرَة ٍ أو فَي السَّمَاواتِ أو فَي الأرضِ يَأتِي بِهَا الله إنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِير (قال ابن سعدي :[ أي لطُف في علمه حتى اطلع على البواطن والأسرار وخفايا القفار والبحار ] والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله والعمل بطاعته مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح قلّ أو كثُر ، وقال بعضهم :[ من اتقى الله في ظاهره عن تناول الشبهات وأصلح باطنه بدوام مراقبة الله عز وجل ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..]، وقيل لأحدهم :[ متى يهشّ الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة ، فقال : إذا علم أن عليه رقيبا ].

وقال الإمام الشافعي رحمه الله
:

صبرا ًجميلا ً ما أقرب الفرجٍٍٍ[] من راقب الله في الأمور نجا

ومن صدق الله لم ينله أذى[] وما الرجاء يكون حيث رجا

وقال عمر ابن عبد العزيز
:

ومن الناس من يعيش شقيّا[] جيفة الليل غافل اليقظة

فإذا كان ذا حياء ودين[] راقب الله واتقى الحفظة

إنما الناس سائر ومقيم[] والذي سار للمقيم عظة

قال ابن القيم
:[ مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر ، فمن راقب الله في سرّه حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته ، والمراقبة هي التعبّد لله باسمه الرقيب .. الحفيظ .. العليم .. السميع البصير .. فمن عقل هذه الأسماء ، وتعبّد بمقتضاها حصلت له المراقبة ] وقال :[ المراقبة دوام علم العبد وتيقّنه باطلاع الله سبحانه على ظاهره وباطنه ، فاستدامته لهذا العلم و اليقين هي المراقبة ، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ، ناظر إليه ، سامع لقوله ، وهو مطلع على عمله كل وقت ، وكل لحظة ، وكل نفس ، وكل طرفة عين ..

والذي يدفع العبد إلى أن يستشعر مراقبة الله له أمــور عديـــــدة ، منها :

أولا ً: أن الله لا يخفى عليه شيء ، وقد وكّل بالعبد ملائكة يرصدون عليه جميع أقواله وأعماله )إنَّ عليكم لحافظين* كراما ً كاتبين * يعلمون ما تفعلون( .

وثانيها : عظم أجر المؤمن باستشعاره لمراقبة الله ، فمراقبة الله أكثر ثوابا ًمن قيام الليل ، وصيام النهار، وإنفاق المال في سبيل الله ..

وثالثها : أن مراقبة الله ينتج عنها الإقدام على الطاعات ، وترك الخطايا والسيئات ، والندم والتوبة على ما وقع من العبد من زلل ، قال تعالى ) إنَّ الّذينَ اتقَوَا إذا مَسّهُم طائِفٌ مِنَ الشَيطَانِ تذكّروا فإذا هُم مُبصِرُون (.

ورابعها : أن العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة مربوطة بمراقبة الله ، فمن راقب الله حفظه الله ، ومن أضمر خلافه خذله الله ، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الأجل ..

فيا أيها المؤمن.. اعلم أن مراقبتك لله .. من أعظم أعمالك الصالحة .. ومن أعظم ما يقرّبك إلى الله ..ومن أعظم ما يجعلك تأمن من معاصي الله ، ويجعلك تُقدم على التوبة إلى الله ، ويجعل الشياطين تبتعد عنك بإذن الله ..

أسأل الله جل وعلا أن يجعل في قلوبنا جميعا ًمراقبته.. اللهم اجعلنا يا حي يا قيوم نراقبك في جميع أعمالنا .. هذا والله أعلم ..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ....




بسم الله الرحمن الرحيم


قلوب الصائمين


الصبــــــــــــــــــــــر


الحمد لله يأمر وينهى ..ويقضي ويحكم .. لا رادَّ لما قضى ولا معقّب لما حكم .. والصلاة والسلام على رسوله..

أما بعــــــــــد ..



فإن من أعمال القلوب التي يتقرّب المؤمنون بها إلى ربهم جلّ وعلا ..
الصبر وعدم الجزع ..



فإن الصبر من أخلاق النفوس الأبيّة ، ومن صفات القلوب المخلصة ، والصبر حبس النفس عن التجزّع سواءًفي أوامر الله الشرعية أو أقداره الكونية ، قال عبيد ابن عُمير
:[ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب ، ولكنّ الجزع القول السيئ والظن السيئ ] وقد قال الله جل وعلا عن أم موسى )وَلَولا أن رَبَطنَا عَلَىَ قَلبِهَالِتَكُونَ مِنَ المُؤمِنِين( أي ثبتناها بالصبر وبإبعاد الجزع عنها فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر ولم يجزع زاد ذلك من إيمانه ، فدلّ على أن استمرار الجزع مع العبد دليل على ضعف إيمانه ، وفي الخبر { إذا أحب الله قومًا ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع} .

ومن طرق علاج الجزع .. نسيان المصائب مع اليقين بأن ما عند الله أفضل وأبرك ، وعند الله جل وعلا الخلف لكل مصيبة .

ومن علاج الجزع .. التخلّق بخلق الصبر وعدم الشكوى إلى الخلق من أقدار الله المؤلمة ، وإنما يشكوا العبد إلى ربه جلّ وعلا .

ومن علاج الجزع .. ملاحظة صنع الله في عباده ، مما يتمكن المرء معه من علاج جزعه .

ومن طرق علاج الجزع .. أن يتذكر المرء مقارنة الظفر والفوز بالصبر، فإن الله جل وعلا قد وعد الصابرين بالفوز والظفر .

ومن أعظم علاج الجزع .. الإكثار من الصلاة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وقد قال الله تعالى ) إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعَا إذَا مَسَّهُ الشَرَُ جَزُوعَا وإذا مَسَّهُ الخَيرُ مَنُوعَا إلاالمُصَلّين الّذِينَ هُم عَلَىَ صَلاتِهِم دَائِمُون( وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ يا بلال أرحنابالصلاة} .

ومن أنواع علاج الجزع .. الإكثار من ذكر الله تعالى كما قال سبحانه ) ألا بِذِكرِ اللهِ تَطمَئِنُ القُلُوب ( .

وكذلك من طرق علاج الجزع .. الإيمان بالقضاء والقدر ، بأن يعلم العبد أن ما قدّره الله عليه فلا مناص له منه ،ولا مهرب منه مهما فعل من الأسباب .

ومن علاج الجزع .. أن يعرف العبد أن الجزع يضرّه ولا ينفعه ، وقد جاء في حديث محمود ابن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{إذا أحب الله قومًا ابتلاهم ، فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع} وكتب محمود ابن لبيد لمعاذ :[ إن احتسبته (يعني ولده الذي مات ) فاصبر ولا يُحبط جزعُك أجرك فتندم ، واعلم أن الجزع لا يردُّ شيئا ولا يدفع حُزنا ] ، وقال عمر ابن عبد العزيز :[ الصبر أقرب إلى الله وسيلة ، وليس الجزع بمحيي من مات ، ولا برادِّ ما فات ] .

وليعلم المصاب بأي مصيبة أن الجزع لا يرد المصيبة التي قدّرها الله ، بل إن الجزع يُضاعف المصيبة ، والجزع في الحقيقة يزيد في مصيبة العبد ، فالجزع يُشمت العدو ويسوء الصديق ، ويُغضب الربَّ ، ويُسرُّ الشيطان ، ويُحبط الأجر ، ويُضعف النفس .. ولذلك جاءت النصوص الشرعية بالأمر بالصبر .

إن لترك الجزع مع التخلّق بالصبر .. فــوائــــــــــد عـــظــيـمـــة : ـــ

-1فهو من صفات الصادقين المتقين كما قال سبحانه
) والصَابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأس أولَئِكَ الّذِينَصَدَقُوا وَأولَئِكَ هُمُ المُتَّقُون( .

-2الصابر يعظم أجره عند ربه كما قال تعالى
) إنما يُوفَّىَ الصَابِرُونَ أجرَهُم بِغَيرِ حِسَاب ( .

-3الصابر محبوب عند الله ، كما قال سبحانه
) واللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين ( ، ولذا كان من صفات المفلحين التواصي بالصبر كما قال جل وعلا ) وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وتَوَاصَوا بِالصَّبر( .

-4الإمامة في الدين إنما تُنال بصفات منها الصبر، كما قال سبحانه ) وَجَعَلنَا مِنهُم أئِمَّةٍ يَهدُونَ بِأمرِنا لَمَّا صَبَرُواوَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون ( .

-5 وقد وعد الله الصابرين بأن يكون الله معهم مؤيدًا وناصرا ، قال تعالى
) يَا أيُّهَا الّذِينَآمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين ( وقال جل وعلا ) وَبَشِّرِ الصَّابِرِين( ، ومن هنا فقد بشّر الله جلّ وعلا الصابرين بالرحمة والهدى كما قال سبحانه ) وبَشّرِ الصَّابِرِين الّذينَ إذَا أصَابَتهُم مُصِيِبَةٌ قَالُوا إنَّا للهِ وإنَّا إلَيهِ رَاجِعُون أولَئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ من رَبِّهِم وَرَحمَة وَأولَئكَ هُمُ المُهتَدُون ( .

6-الصبر من أسباب دخول الجنّة كما قال تعالى ) إنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بِمَا صَبَرُوا أنَّهم هُمُ الفَائِزُون ( وقال جل وعلا ) سَلامٌ عَلَيكُم بِمَا صَبرتُم فَنِعمَ عُقبى الدَار ( .

7-الصبر من أسباب الظفر والنصر في الدنيا ، جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر } .

8-الصابرون يجعلهم الله يُفكّرون في العواقب ، ويُدركون مآلات الأمور كما قال سبحانه ) إنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّصَبَّارٍ شَكُور (.

9-الصبر مع التقوى .. يحصل بهما فوائـــــد عــظيـــــمة ، وثمرات جزيلة كما قال سبحانه ) وإن تَصّبِرُوا وَتَتّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُور ( وقال) إنَّهُ من يَتَّقِي ويَصبِر فإنَّ اللهَ لا يُضيِعُ أجرَ المُحسِنِين ( وقال ) وإن تَصبِرُواوتَتَّقُوا لا يَضُرّكُم كَيدَهُم شَيئَا ( وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{من يصبر يُصبِّره الله ، وماأعطيَ العبد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر} متفق عليه ، وفي صحيح مسلم :{الصبر ضيــــــــاء} وقال سبحانه ) ولَمَن صَبَرَ وَغفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأمُور (.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم
:{عجبًالأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إنأصابته سرّاء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له} كما رواه الإمام مسلم في صحيحه .



إن الجزع وترك الصبر يورد الإنسان المهالك ، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزِعَ فأخذ سكيناً فحزَّ بها يده فما رقئ الدم حتى مات ، فقال الله تعالى بادرني عبديبنفسه ، حرّمت عليه الجنة} .

أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإيّاكم الصبر .. وأن يبعد عنا الجزع ..
هذا والله أعلم
.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...

تابع القراءة...
.๑. (النور جل جلاله) .๑.

لماكان النور من أسمائه سبحانه وصفاته كان دينه نورا،ورسوله نورا،وكلامه نورا، ودار كرامته لعباده نورايتلألأ،والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين،ويجري على ألسنتهم،ويظهر على وجوههم،ويتم تبارك وتعالى عليهم هذا النور يوم القيامة